قال الابن لوالده: لقد أعطيت مسؤول الجمعية الخيرية المالَ الذي تبرعنا به ، وحين سألني عن صاحب المكرمة ذكرت له اسمك.
قال الأب : ألم أوصِك – يا بنيّ- أن لا تفعل ذلك ؟ ألم أقل لك : ادفع المال ، وذيّل التوقيع باسم " فاعل خير " وامضِ دون أن يعرفوك ؟.
قال الابن : اجتهدت – يا والدي – أن تُعرف برَجل " البر والتقوى " ليقتدي بك الناس في السخاء والكرم .
قال الأب : أنا لا أحب الرياء يا ولدي ، فإنه يُحبط العمل الصالح ، ويُضيع الأجر .
قال الابن : من قال إنك تـُرائي بتبرعك بما أعطاك الله يا أبي ... إلاّ أنه خطر ببالي أن تبرعك على أعين الناس يشجعهم على تقليدك فيبذلوا المال ... وقد ترغب مرة أن ترشح نفسك لمنصب يخدم الأمة ، فيكون ذكرك الحسنُ شفيعاً عندهم للوصول إلى ما تبتغيه من خدمتهم والسهر على مصالحهم .
قال الأب : حسبك - يا بني – فهذه – والله- المراءاةُ بعينها ... لقد ضيعتني - يا ولدي – استغفر الله وأتوب إليه ... ما كنت أقصد ذلك .. أستغفرك ، يارب .
قال الابن : كيف يَضيرُك ما فعلتـُه – يا أبتِ – أنا لا أقصد إلا الخير .وهل في أن تكون النية الصالحة مختلطة بالمصلحة الدنيا مدعاة إلى سخط الله ؟!
قال الأب : إن الله تعالى لا يقبل من عبده إلاّ ما كان خالصاً لوجهه الكريم .. هل سمعتَ بقصة الشهيد والعالِم والمحسن الذين كـُبـّوا على وجوههم في النار حين تباهـَوا بما فعلوا ؟
قال الابن : أرجو - يا والدي –أن تعلَمني وترشدني ، فأنا إلى نصائحك وإرشادك أحوج مني إلى الماء الزلال .
قال الأب : يقول الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه وهم متحلقون حوله ترنو إلى وجهه الصبوح عيونُهم ، وترشف من معين تعاليمه قلوبُهم :
إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استُشهد .
قال أحدهم : أيُقضى عليه أم لم له ؛ يا رسول الله ؟ فقد سمعنا منك أنه شهيد ، والشهيد له الدرجات العلا كما علمتنا يا رسول الله .
قال عليه الصلاة والسلام : بل يُقضى عليه ... تأتي به الملائكةُ إلى الحق – جلّ وعلا – فيُعرّفه نعمته التي أنعم بها عليه : الإيمان ، الصحة ، العافية ، القوة ، الرزق .... فيُقر الرجل بنعم الله تعالى عليه ..... فيسأله الله تعالى – وهو العليم – فما عملتَ فيها ؟
يقول الرجل : قاتلت في سبيلك وخضت المعارك أعلي كلمة الحق ، واستشهدت دفاعاً عن دينك القويم .
فيقول الحق تبارك وتعالى : كذبت أيها الرجل ( وإذا نطق الحق خرست الألسنة ونُكّست الرؤوس ، وأيقن المخاطَب بالهلاك والثبور وعظائم الأمور ) ولكنك قاتلت ليقول الناس إنك جريء ... وقد قيل ، فليس لك عندي ثواب سوى النار ، فأنا لا أقبل إلا ما كان خالصاً لوجهي ، خذوه إلى النار ... فيُسحب الرجل على وجهه مَهيناً ذليلاً ، ثم يُلقى في نار جهنّم .
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ومثله رجل تعلم العلم ، وعلّمه الناسَ ، فلهجوا بذكره ، وكبر في عيونهم ، وقرأ القرآن بصوت حلو عذب ، فرتـّله ترتيلاً رائعاً ، فمالت رؤوس القوم له يستزيدونه ، فييزيدُهم ، ويُطرونه ، فيَسعد بإطرائهم .. ولقد كان يتعلّم ، ويعلّم ، ويقرأ ليستفيد مالاً ومركزاً وذكراً حسناً بالإضافة إلى ما يظنّه العملَ الصالحَ .. فهو يُفيد الناس َ!!!
تأتي به الملائكة يوم القيامة فيقف أمام الحق تبارك وتعالى ، فيُعرّفه نعمه الجليلة وأفضاله ، فيقرّ بها الرجل ، ويعترف بفضل الله سبحانه عليه ، فيسأله الله تعالى – وهو العليم – بما قدّم في الدنيا – فما عملتَ فيها ؟
يقول الرجل : تعلمتُ العلم ، وعلّمتُه ، وقرأت القرآن ورتّلتُه ... كل ذلك ابتغاء مرضاتك – يا رب- وطلباً لجنتك .
فيقول الحق تبارك وتعالى : كذبت أيها الرجل ( وهنا يشعر أنه خسر نفسه بريائه ، وهوى في جهنم قبل أن يهوي فيها ، وهل بعد قول الجليل قول ؟) ولكنك تعلمتَ ليُقال : عالم . وقرأتَ القرآن ليقال : قارئ . وقد قال الناس ذلك . ونلتَ استحسانهم ، وهذا ثوابك الذي أردتـَه . ، فليس لك عندي سوى نار جهنم ، فأنا لا أقبل من العمل إلا الخالص لي ... خذوه إلى جهنم ... فيُسحب على وجهه خزيان خاسراً حتى يُلقى فيها .
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ومثله رجل وسّع الله عليه ، فأعطاه المالَ أصنافاً – دنانير ودراهم ودوراً وعقاراتٍ وأنعاماً – فقدّم إلى المحتاجين الكثيرَ ، وعُرف بين الناس بـ " رجل البر والتقوى " فسُرّ لهذا اللقب ، فجعل يُعطي ، ويمُنّ على العباد . وما جلس مجلساً إلا ذكر ما فعله ، وعدّد ما قدّمه ... تأتي به الملائكة أمام علاّم الغيوب ، فيُعرّفه أفضاله الجزيلة وخيراتِه الوفيرة، فيقر الرجل بفضل الله تعالى عليه ، وهل يُنكر عاقل فضل الله وكرمه؟!! فيسأله الله تعالى – وهو العليم .. العليم بكل شيء – ما عملْتَ فيما أعطيتك وفضّلتُ عليك ؟ .
يقول الرجل : ما تركتُ من سبيل تحب – يارب – أن يُنفق المال فيه إلا أنفقتُ في مرضاتك .
فيقول الحقّ تبارك وتعالى : كذبت: ( من كذب خاب ، ومن خاب عاب ... حين ينطق من يعلم السرائر بهذه الكلمة فقد باء المقصود بها بالمصير المرعب والنهاية الفاضحة ، فيا ويل من يصفه الله تعالى بالكذب ) ولكنك بذلت المال ليقول الناس : إنه جواد كريم ، وقد قالوا ذلك ، فماذا تبَقّى لك عندي ؟! من سمّع سمّع اللهُ به ، ومن يسلكْ طريق الرياء يجد ْعاقبة الرياء تنتظره ... خذوه إلى جهنّم .. ( إنه الحكم الفصل الذي لا استئناف فيه ) ... وتجره ملائكة العذاب على وجهه مهيناً ذليلاً ، فيُلقى في نار جهنّم .
وينهي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حديثه ، فترى القوم يسبحون في عرقهم خوف أن يكون في عملهم رياء ، ويستعيذون بالله من الرياء ، وسوء مصير صاحبه ,
وسكت الأب هنيهة ، ونظر إلى ابنه ليراه واجماً ساهماً ، كأنّ على رأسه الطير .
فقال : أعرفتً يا ولدي كيف ينبغي أن يكون العمل لله وحده ؟
كان سكوت الولد اوضحَ جواب .